لم يكن مايكل هارت مخطئاً حينما قدم بولس الطرسوسى على يسوع المسيح فى قائمته بخصوص أعظم مائة شخصية فى التاريخ ..
والذى أختار محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ليكون على رأس المائة ..
إذ أن منشأ المسيحية الصليبية هو بولس الطرسوسى وليس يسوع المسيح ..
موسى وناموس العهد القديم
لقد بعث الله تعالى نبيه ورسوله الكريم موسى صلى الله عليه وسلم بالتوحيد الخالص وألزم بنى اسرائيل بناموس التوراة طيلة حياته ..
ولم يدعو موسى صلى الله عليه وسلم إلا إلى إله واحد لا شريك له الله الواحد الأزلى ..
الذى من الأزل والى الأبد يدوم مجده ..
وهذا ما يعبر عنه كتاب العهد القديم بحذافيره فيقول: [وَقَالَ اللهُ أَيْضًا لِمُوسَى .. هكَذَا تَقُولُ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ: يَهْوَهْ إِلهُ آبَائِكُمْ إِلهُ إِبْرَاهِيمَ وَإِلهُ إِسْحَاقَ وَإِلهُ يَعْقُوبَ أَرْسَلَنِي إِلَيْكُمْ] .. [الخروج: 3] ..
ويقول أيضاً: [ثُمَّ تَكَلَّمَ اللهُ بِجَمِيعِ هذِهِ الْكَلِمَاتِ قَائِلاً .. أَنَا الرَّبُّ إِلهُكَ الَّذِي أَخْرَجَكَ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ مِنْ بَيْتِ الْعُبُودِيَّةِ .. لاَ يَكُنْ لَكَ آلِهَةٌ أُخْرَى أَمَامِي .. لاَ تَصْنَعْ لَكَ تِمْثَالاً مَنْحُوتًا وَلاَ صُورَةً مَا مِمَّا فِي السَّمَاءِ مِنْ فَوْقُ وَمَا فِي الأَرْضِ مِنْ تَحْتُ وَمَا فِي الْمَاءِ مِنْ تَحْتِ الأَرْضِ .. لاَ تَسْجُدْ لَهُنَّ وَلاَ تَعْبُدْهُنَّ، لأَنِّي أَنَا الرَّبَّ إِلهَكَ إِلهٌ غَيُورٌ] .. [الخروج: 1] ..
ويقول: [أَنَا الرَّبُّ هذَا اسْمِي وَمَجْدِي لاَ أُعْطِيهِ لآخَرَ وَلاَ تَسْبِيحِي لِلْمَنْحُوتَاتِ] .. [إشعياء: 8] ..
يقول الدكتور عبد الوهاب المسيرى فى موسوعته عن اليهود واليهودية والصهيونية أن موسى بن ميمون العالم والفيلسوف اليهودى الأندلسى قد حدد الأسس التى قامت عليها العقيدة اليهودية ومنها:
1- أنا أؤمن إيماناً كاملاً بأن الإله تبارك اسمه هو الموحّد والمدبّر لكل المخلوقات وهو وحده الصانع لكل شيء فيما مضى وفى الوقت الحالى وفيما سيأتى ..
2- أنا أؤمن إيماناً كاملاً بأن الإله تبارك اسمه واحد لا يشبهه فى وحدانيته شىء بأية حال وهو وحده إلهنا كان منذ الأزل وهو كائن وسيكون إلى الأبد ..
3- أنا أؤمن إيماناً كاملاً بأن الإله تبارك اسمه ليس جسماً ولا تحده حدود الجسم ولا شبيه له على الإطلاق ..
4- أنا أؤمن إيماناً كاملاً بأن الإله تبارك اسمه هو الأول والآخر ..
5- أنا أؤمن إيماناً كاملاً بأن الإله تبارك اسمه، هو وحده الجدير بالعبادة ولا جدير بالعبادة غيره ..
6- أنا أؤمن إيماناً كاملاً بأن كل كلام الأنبياء حق ..
7- أنا أؤمن إيماناً كاملاً بأنالإله تبارك اسمه يجزى الحافظين لوصاياه ويعاقب مخالفيها ..
ويظهر من خلال ما سبق أن اليهود كانوا لا يؤمنون سوى باله واحد ليس كمثله شىء ..
وأنه لم يكن ثلاثة أقانيم أبداً بل كان واحداً فى ذاته وصفاته ..
لا يشبه مخلوقاته بحال من الأحوال
المسيح كان يهودياً متبعاً لناموس موسى
يقول المسيح على لسان إشعياء النبى: [رُوحُ السَّيِّدِ الرَّبِّ عَلَيَّ لأَنَّ الرَّبَّ مَسَحَنِي لأُبَشِّرَ الْمَسَاكِينَ أَرْسَلَنِي لأَعْصِبَ مُنْكَسِرِي الْقَلْبِ لأُنَادِيَ لِلْمَسْبِيِّينَ بِالْعِتْقِ وَلِلْمَأْسُورِينَ بِالإِطْلاَقِ .. لأُنَادِيَ بِسَنَةٍ مَقْبُولَةٍ لِلرَّبِّ وَبِيَوْمِ انْتِقَامٍ لإِلَهِنَا .. لأُعَزِّيَ كُلَّ النَّائِحِينَ .. لأَجْعَلَ لِنَائِحِي صِهْيَوْنَ لأُعْطِيَهُمْ جَمَالاً عِوَضًا عَنِ الرَّمَادِ وَدُهْنَ فَرَحٍ عِوَضًا عَنِ النَّوْحِ وَرِدَاءَ تَسْبِيحٍ عِوَضًا عَنِ الرُّوحِ الْيَائِسَةِ فَيُدْعَوْنَ أَشْجَارَ الْبِرِّ، غَرْسَ الرَّبِّ لِلتَّمْجِيدِ] .. [إشعياء: 61] ..
نعم .. أن المسيح جاء ليبشر المساكين منكسرى القلوب من اليهود الذين رأوا الذل والهوان بسبب المعاصى المهلكة التى وقع فيها الشعب العبرانى نتيجة لبعده عن الله تعالى ..
جاء ليبشر بنى اسرائيل بالعهد الجديد الذى يبدءون فيه مع الله صفحة جديدة ناصعة البياض ليقوم بنى إسرائيل بكتابتها بالايمان والعمل الصالح ..
ولكنهم بدلاً من ذلك حاولوا التخلص منه بقتله وصلبه ..
ولكن الله تعالى نجاه من كيدهم توفاه ورفعه اليه ..
لم يكن المسيح سوى يهودياً خالصاً متبعاً لناموس موسى النبى عليه الصلاة والسلام ..
كان المسيح يدعو بنى إسرائيل كسائر أنبيائهم للعودة الى ناموس الرب الذى أمر بتوحيده وعبادته هو وحده لاشريك له ..
ويؤكد على حقيقة دعوته إلى الله تعالى بقوله: [وهذه هى الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقى وحدك ويسوع المسيح الذى أرسلته] .. [يوحنا: 17] ..
أى أن الحياة الأبدية تكمن فى الإيمان بالإله الواحد الحقيقى لهذا الكون لاشريك له ..
وفى الإيمان بيسوع المسيح عبده ورسوله ..
ولم تكن دعوة المسيح شىء آخر ابداً غير هذا ..
وقد كان مبشرا أيضاً برسول يأتى من بعده إسمه أحمد ..
وهو خاتم الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وسلم .. ..
اليهود المسيحيين
يقول الطبيب لوقا على لسان بطرس حوارى المسيح ما يلى: [أَيُّهَا الرِّجَالُ الإِسْرَائِيلِيُّونَ اسْمَعُوا هذِهِ الأَقْوَالَ: يَسُوعُ النَّاصِرِيُّ رَجُلٌ قَدْ تَبَرْهَنَ لَكُمْ مِنْ قِبَلِ اللهِ بِقُوَّاتٍ وَعَجَائِبَ وَآيَاتٍ صَنَعَهَا اللهُ بِيَدِهِ فِي وَسْطِكُمْ] .. [أعمال الرسل: 2] ..
لم يكن يعتقد الحواريين سوى أن يسوع المسيح رسول من الله أتى بآيات وعجائب صنعها الله على يديه ليؤمنوا بالإله الواحد الحقيقى وبيسوع المسيح الذى أرسله ..
إذ تجد كلمات جاءت على لسان الحواريين تظهر عقيدتهم الحقيقية بعيداً عما كان يعتقده بولس الطرسوسى ..
فيحكى الطبيب لوقا كيف أن الحواريين قد فعلوا المعجزات وفقا لإيمانهم بالرب ومسيحه وكيف آمن لهم ثلاثة آلاف نفس وقد كانوا يصلون فى الهيكل مع اليهود ..
يقول: [فَلَمَّا سَمِعُوا نُخِسُوا فِي قُلُوبِهِمْ وَقَالُوا لِبُطْرُسَ وَلِسَائِرَ الرُّسُلِ .. مَاذَا نَصْنَعُ أَيُّهَا الرِّجَالُ الإِخْوَةُ .. فَقَالَ لَهُمْ بُطْرُسُ .. تُوبُوا وَلْيَعْتَمِدْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ باسْمِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ لِغُفْرَانِ الْخَطَايَا فَتَقْبَلُوا عَطِيَّةَ الرُّوحِ الْقُدُسِ .. فَقَبِلُوا كَلاَمَهُ بِفَرَحٍ وَاعْتَمَدُوا وَانْضَمَّ فِي ذلِكَ الْيَوْمِ نَحْوُ ثَلاَثَةِ آلاَفِ نَفْسٍ .. وَكَانُوا يُواظِبُونَ عَلَى تَعْلِيمِ الرُّسُلِ وَصَارَ خَوْفٌ فِي كُلِّ نَفْسٍ .. وَكَانَتْ عَجَائِبُ وَآيَاتٌ كَثِيرَةٌ تُجْرَى عَلَى أَيْدِي الرُّسُلِ .. وَجَمِيعُ الَّذِينَ آمَنُوا كَانُوا مَعًا وَكَانَ عِنْدَهُمْ كُلُّ شَيْءٍ مُشْتَرَكًا .. فَالأَمْلاَكُ وَالْمُقْتَنَيَاتُ كَانُوا يَبِيعُونَهَا وَيَقْسِمُونَهَا بَيْنَ الْجَمِيعِ كَمَا يَكُونُ لِكُلِّ وَاحِدٍ احْتِيَاجٌ .. وَكَانُوا كُلَّ يَوْمٍ يُواظِبُونَ فِي الْهَيْكَلِ بِنَفْسٍ وَاحِدَةٍ .. وَإِذْ هُمْ يَكْسِرُونَ الْخُبْزَ فِي الْبُيُوتِ كَانُوا يَتَنَاوَلُونَ الطَّعَامَ بِابْتِهَاجٍ وَبَسَاطَةِ قَلْبٍ .. مُسَبِّحِينَ اللهَ وَلَهُمْ نِعْمَةٌ لَدَى جَمِيعِ الشَّعْبِ .. وَكَانَ الرَّبُّ كُلَّ يَوْمٍ يَضُمُّ إِلَى الْكَنِيسَةِ الَّذِينَ يَخْلُصُونَ] ..[أعمال الرسل: 2] ..
كنيسة أورشليم
إذن فكلمة (كنيسة) لم تكن ترمز الا الى الحواريين اليهود المسيحيين الذين آمنوا بالرب ومسيحه ..
وقد كانوا يدعون الى الإيمان بالإنجيل على الطريقة اليهودية كما سبق وذكرنا ..
كانت أورشليم هى مهد الكنيسة اليهودية المسيحية والتى كانت تعد رمزاً لمن يؤمن بيسوع المسيح من اليهود ..
وكان على رأس هذه الكنيسة سان جيمس أو القديس يعقوب البار كما كانوا يطلقون عليه ..
وتشير مصادر العهد الجديد الى أنه كان يعامل باعتباره أخو المسيح أو أخو السيد ويساعده فى ذلك القديس بطرس أو سمعان بن يونا أشهر تلاميذ يسوع ويعتبره البعض هو رأس الكنيسة إستنادا الى إنجيل متى ..
ولكن على ما يبدو أنه كان رأس الكنيسة بعد إستشهاد يعقوب البار ..
لقد كان الحواريون فى هذا الوقت يمثلون شعب الكنيسة بالإضافة الى الثلاثة آلاف الذين آمنوا بالرب ومسيحه اليهودى ..
رسالة يعقوب
بما أن القديس يعقوب كان هو رأس الكنيسة فلابد أنه كانت له تعاليم موجهة لأتباع كنيسته فى أورشليم وإلى هؤلاء اليهود المسيحيين الذين ربما يغادرون أورشليم لسبب أو لآخر لتلقينهم الإيمان الصحيح ..
وعليه فلابد من وجود كتاب أو رسالة له تعبر عن هذا الإيمان اليهودى المسيحى ..
وبالفعل شاءت إرادة الله تعالى أن تنجو تعاليم كنيسة يعقوب من أيدى العابثين والمحرفين ووصلت إلينا وهى تعد قانونية فى وقتنا الحاضر ومعروفة بإسم (رسالة يعقوب) لتعبر عن الحقيقة فى أبهى صورها ..
والرسالة من أولها لآخرها تعبر عن الإيمان اليهودى المسيحى الخالص ولن تجد فى هذه الرسالة أى ذكر لعقيدة الفداء والصلب على وجه الإطلاق ..
فلن تجد فيها أى شىء يتحدث عن رش دم المسيح أو كفارة المسيح ..
مما يؤكد أن تعاليم كنيسة أورشليم كانت مختلفة تماماً عن تعاليم رسائل بولس ..
إن طريقة إنشاء الرسالة تعبر بشكل واضح تماماً أن طريق الخلاص المسيحى لم يكن إلا بالإيمان والعمل الصالح وإحتمال البلاء تماماً كما فى العهد القديم ..
يقول يعقوب البار فى أبرز مقطع من رسالته: [مَا أَحْسَنَ عَمَلَكُمْ حِينَ تُطَبِّقُونَ تِلْكَ الْقَاعِدَةَ الْمُلُوكِيَّةَ الْوَارِدَةَ فِي الْكِتَابِ .. تُحِبُّ قَرِيبَكَ كَمَا تُحِبُّ نَفْسَكَ .. وَلكِنْ عِنْدَمَا تُعَامِلُونَ النَّاسَ بِالانْحِيَازِ وَالتَّمْيِيزِ تَرْتَكِبُونَ خَطِيئَةً وَتَحْكُمُ عَلَيْكُمُ الشَّرِيعَةُ بِاعْتِبَارِكُمْ مُخَالِفِينَ لَهَا .. فَأَنْتُمْ تَعْرِفُونَ أَنَّ مَنْ يُطِيعُ جَمِيعَ الْوَصَايَا الْوَارِدَةِ فِي شَرِيعَةِ مُوسَى وَيُخَالِفُ وَاحِدَةً مِنْهَا فَقَطْ يَصِيرُ مُذْنِباً تَمَاماً كَالَّذِي يُخَالِفُ الْوَصَايَا كُلَّهَا .. فَإِنَّ اللهَ مَثَلاً قَالَ .. لاَ تَزْنِ .. كَمَا قَالَ .. لاَ تَقْتُلْ .. فَإِنْ لَمْ تَزْنِ وَلكِنْ قَتَلْتَ فَقَدْ خَرَقْتَ الشَّرِيعَةَ .. إِذَنْ تَصَرَّفُوا فِي الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ بِحَسَبِ قَانُونِ الْحُرِّيَّةِ كَأَنَّكُمْ سَوْفَ تُحَاكَمُونَ وَفْقاً لَهُ .. فَلاَبُدَّ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُمَارِسُونَ الرَّحْمَةَ حُكْماً خَالِياً مِنَ الرَّحْمَةِ .. أَمَّا الرَّحْمَةُ فَهِيَ تَتَفَوَّقُ عَلَى الْحُكْمِ .. يَاإِخْوَتِي هَلْ يَنْفَعُ أَحَداً أَنْ يَدَّعِيَ أَنَّهُ مُؤْمِنٌ وَلَيْسَ لَهُ أَعْمَالٌ تُثْبِتُ ذَلِكَ هَلْ يَقْدِرُ إِيمَانٌ مِثْلُ هَذَا أَنْ يُخَلِّصَهُ .. لِنَفْرِضْ أَنَّ أَخاً أَوْ أُخْتاً كَانَا بِحَاجَةٍ شَدِيدَةٍ إِلَى الثِّيَابِ وَالطَّعَامِ الْيَوْمِيِّ .. وَقَالَ لَهُمَا أَحَدُكُمْ .. أَتَمَنَّى لَكُمَا كُلَّ خَيْرٍ .. الْبَسَا ثِيَاباً دَافِئَةً وَكُلاَ طَعَاماً جَيِّداً .. دُونَ أَنْ يُقَدِّمَ لَهُمَا مَا يَحْتَاجَانِ إِلَيْهِ مِنْ ثِيَابٍ وَطَعَامٍ فَأَيُّ نَفْعٍ فِي ذَلِكَ .. هَكَذَا نَرَى أَنَّ الإِيمَانَ وَحْدَهُ مَيِّتٌ مَا لَمْ تَنْتُجْ عَنْهُ أَعْمَالٌ .. وَرُبَّمَا قَالَ أَحَدُكُمْ .. أَنْتَ لَكَ إِيمَانٌ وَأَنَا لِي أَعْمَالٌ .. أَرِنِي كَيْفَ يَكُونُ إِيمَانُكَ مِنْ غَيْرِ أَعْمَالٍ وَأَنَا أُرِيكَ كَيْفَ يَكُونُ إِيمَانِي بِأَعْمَالِى .. أَنْتَ تُؤْمِنُ أَنَّ اللهَ وَاحِدٌ حَسَناً تَفْعَلُ وَالشَّيَاطِينُ أَيْضاً تُؤْمِنُ بِهَذِهِ الْحَقِيقَةِ وَلَكِنَّهَا تَرْتَعِدُ خَوْفاً .. وَهَذَا يُؤَكِّدُ لَكَ أَيُّهَا الإِنْسَانُ الْغَبِيُّ أَنَّ الإِيمَانَ الَّذِي لاَ تَنْتُجُ عَنْهُ أَعْمَالٌ هُوَ إِيمَانٌ مَيِّتٌ .. لِنَأْخُذْ أَبَانَا إِبْرَاهِيمَ مَثَلاً: كَيْفَ تَبَرَّرَ أَلَيْسَ بِأَعْمَالِهِ إِذْ أَصْعَدَ ابْنَهُ عَلَى الْمَذْبَحِ .. فَأَنْتَ تَرَى أَنَّ إِيمَانَ إِبْرَاهِيمَ قَدْ رَافَقَتْهُ الأَعْمَالُ .. فَبِالأَعْمَالِ قَدِ اكْتَمَلَ الإِيمَانُ .. وَهَكَذَا تَمَّ مَا قَالَهُ الْكِتَابُ .. آمَنَ إِبْرَاهِيمُ بِاللهِ فَحُسِبَ لَهُ ذَلِكَ بِرّاً .. حَتَّى إِنَّهُ دُعِيَ (خَلِيلَ اللهِ) .. فَتَرَوْنَ إِذَنْ أَنَّ الإِنْسَانَ لاَ يَتَبَرَّرُ بِإِيمَانِهِ فَقَطْ بَلْ بِأَعْمَالِهِ أَيْضاً .. عَلَى هَذَا الأَسَاسِ أَيْضاً تَبَرَّرَتْ رَاحَابُ الَّتِي كَانَتْ زَانِيَةً .. فَقَدِ اسْتَقْبَلَتِ الرَّجُلَيْنِ اللَّذَيْنِ أُرْسِلاَ إِلَيْهَا وَصَرَفَتْهُمَا فِي طَرِيقٍ آخَرَ .. فَكَمَا أَنَّ جِسْمَ الإِنْسَانِ يَكُونُ مَيْتاً إِذَا فَارَقَتْهُ الرُّوحُ كَذَلِكَ يَكُونُ الإِيمَانُ مَيِّتاً إِذَا لَمْ تُرَافِقْهُ الأَعْمَالُ] .. [يعقوب: 2] ..
إن الرسالة تعبر بصريح العبارة عن الإيمان اليهودى الخالص كما فى سفر حزقيال: [اَلنَّفْسُ الَّتِي تُخْطِئُ هِيَ تَمُوتُ .. اَلابْنُ لاَ يَحْمِلُ مِنْ إِثْمِ الأَبِ وَالأَبُ لاَ يَحْمِلُ مِنْ إِثْمِ الابْنِ .. بِرُّ الْبَارِّ عَلَيْهِ يَكُونُ وَشَرُّ الشِّرِّيرِ عَلَيْهِ يَكُونُ ..فَإِذَا رَجَعَ الشِّرِّيرُ عَنْ جَمِيعِ خَطَايَاهُ الَّتِي فَعَلَهَا وَحَفِظَ كُلَّ فَرَائِضِي وَفَعَلَ حَقًّا وَعَدْلاً فَحَيَاةً يَحْيَا .. لاَ يَمُوتُ ..كُلُّ مَعَاصِيهِ الَّتِي فَعَلَهَا لاَ تُذْكَرُ عَلَيْهِ .. فِي بِرِّهِ الَّذِي عَمِلَ يَحْيَا .. هَلْ مَسَرَّةً أُسَرُّ بِمَوْتِ الشِّرِّيرِ يَقُولُ السَّيِّدُ الرَّبُّ .. أَلاَ بِرُجُوعِهِ عَنْ طُرُقِهِ فَيَحْيَا .. وَإِذَا رَجَعَ الْبَارُّ عَنْ بِرِّهِ وَعَمِلَ إِثْمًا وَفَعَلَ مِثْلَ كُلِّ الرَّجَاسَاتِ الَّتِي يَفْعَلُهَا الشِّرِّيرُ، أَفَيَحْيَا كُلُّ بِرِّهِ الَّذِي عَمِلَهُ لاَ يُذْكَرُ فِي خِيَانَتِهِ الَّتِي خَانَهَا وَفِي خَطِيَّتِهِ الَّتِي أَخْطَأَ بِهَا يَمُوتُ] .. [حزقيال: 18] ..
لقد كانت هذه الرسالة أصدق تعبير عن تعاليم كنيسة أورشليم المسيحية ..
والتى كانت تدعو إلى الإيمان بيسوع المسيح وفقاً لناموس الرب ..
كانت رسالة يعقوب تعبر عن الحقيقة فى أبهى صورها: (هَلْ يَنْفَعُ أَحَداً أَنْ يَدَّعِيَ أَنَّهُ مُؤْمِنٌ وَلَيْسَ لَهُ أَعْمَالٌ تُثْبِتُ ذَلِكَ .. هَلْ يَقْدِرُ إِيمَانٌ مِثْلُ هَذَا أَنْ يُخَلِّصَهُ .. ؟!) ..
إذن فكنيسة أورشليم كانت تعلم أن الخلاص لن يكون سوى بالإيمان والعمل الصالح ..
وهذا يختلف تماماً عن تعاليم بولس الطرسوسى الذى يقول فى رسالته إلى أهل غلاطية: (لأنَّهُ إِنْ كَانَ بِالنَّامُوسِ بِرٌّ فَالْمَسِيحُ إِذًا مَاتَ بِلاَ سَبَبٍ .. !) ..
إن بولس من خلال كلماته هذه لا ينفى انه لا خلاص من الخطيئة إلا بفداء المسيح فحسب بل يدعى أن عمل الخير ذاته والإلتزام بناموس الرب لن يجدى نفعاً ما لم يؤمن المرء بكفارة دم المسيح ..
بل إن بولس ينفى أى إحتمالية فى قضية صلب المسيح ويجعل العقيدة كلها مرهونة بصلبه فيقول: [وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْمَسِيحُ قَدْ قَامَ فَبَاطِلَةٌ كِرَازَتُنَا وَبَاطِلٌ أَيْضًا إِيمَانُكُمْ] .. [كولوسى: 15] ..
وهذا يوضح أن عقيدة بولس الطرسوسى مختلفة كل الإختلاف عن عقيدة رسل المسيح اليهود المسيحيين المخلصين للرب وللناموس ..
رؤيا بطرس
على ما يبدو أنه كانت هناك شائعات فى المجتمع اليهودى أن يسوع المسيح قد صلب بواسطة كهنة الهيكل على أيدى الرومان ..
وعلى ما يبدو أن الحواريين أنفسهم فى بادىء الأمر كانوا يشكون فيما حدث فعلاً ..
وكانوا لا يعرفون هل كان المصلوب هو يسوع حقاً أم لا ..
ولكن يسوع قد ظهر لهم وأكد أنه لم يصلب أو يقتل ..
ويؤكد هذا ما رآه بطرس فى رؤياه: [رأيتهم وكأنهم يمسكون به .. فقلت ما هذا الذى أراه يا سيد .. أنت هو حقاً من يأخذون .. أم من هذا الذى يبتهج ضاحكاً على الشجرة .. ومن هذا الذى يدقون يديه ورجليه بالمسامير .. قال لى المخلص: الذى رأيته على الشجرة مبتهجاً وضاحكاً هو يسوع الحى .. لكن الذى دقوا المسامير فى يديه ورجليه جسدياً هو البديل الذى وضع عليه العار الشبيه له .. ولكن أنظر إليه وإلى] .. [رؤيا بطرس الغنوصية] ..
ورؤيا بطرس كان معترفاً بها خلال القرون الثلاثة الأولى كما يقول يوحنا كرافيذوبولوس فى كتابه تاريخ قانون العهد الجديد وهو يعدد كتب قانون موراتورى: (ورؤيا يوحنا ورؤيا بطرس .. ويشار إلى الثانية أن العديدين لم يرغبوا بأن تقرأ فى الكنيسة) إهـ ..
وإن كانت هذه الرؤيا غنوصية إلا أن هذا يثبت أن لها أصولاً ..
إستشهاد إستيفانوس
كان إستيفانوس أحد أبرز المؤمنين من اليهود المسيحيين فى أورشليم ..
وفى وسط المجمع اليهودى حاول أن يوجه خطابه إلى اليهود لعلهم يؤمنون بالرب ومسيحه المنتظر ..
فكانت النتيجة أنه قتل رجماً على أيديهم ..
يقول الطبيب لوقا: [وَأَمَّا اسْتِفَانُوسُ فَإِذْ كَانَ مَمْلُوًّا إِيمَانًا وَقُوَّةً .. كَانَ يَصْنَعُ عَجَائِبَ وَآيَاتٍ عَظِيمَةً فِي الشَّعْبِ .. فَنَهَضَ قَوْمٌ مِنَ الْمَجْمَعِ الَّذِي يُقَالُ لَهُ مَجْمَعُ اللِّيبَرْتِينِيِّينَ وَالْقَيْرَوَانِيِّينَ وَالإِسْكَنْدَرِيِّينَ وَمِنَ الَّذِينَ مِنْ كِيلِيكِيَّا وَأَسِيَّا يُحَاوِرُونَ اسْتِفَانُوسَ .. وَلَمْ يَقْدِرُوا أَنْ يُقَاوِمُوا الْحِكْمَةَ وَالرُّوحَ الَّذِي كَانَ يَتَكَلَّمُ بِهِ .. حِينَئِذٍ دَسُّوا لِرِجَال يَقُولُونَ .. إِنَّنَا سَمِعْنَاهُ يَتَكَلَّمُ بِكَلاَمٍ تَجْدِيفٍ عَلَى مُوسَى وَعَلَى اللهِ .. وَهَيَّجُوا الشَّعْبَ وَالشُّيُوخَ وَالْكَتَبَةَ فَقَامُوا وَخَطَفُوهُ وَأَتَوْا بِهِ إِلَى الْمَجْمَعِ .. وَأَقَامُوا شُهُودًا كَذَبَةً يَقُولُونَ .. هذَا الرَّجُلُ لاَ يَفْتُرُ عَنْ أَنْ يَتَكَلَّمَ كَلاَّمًا تَجْدِيفًا ضِدَّ هذَا الْمَوْضِعِ الْمُقَدَّسِ وَالنَّامُوسِ .. لأَنَّنَا سَمِعْنَاهُ يَقُولُ إِنَّ يَسُوعَ النَّاصِرِيَّ هذَا سَيَنْقُضُ هذَا الْمَوْضِعَ وَيُغَيِّرُ الْعَوَائِدَ الَّتِي سَلَّمَنَا إِيَّاهَا مُوسَى .. فَشَخَصَ إِلَيْهِ جَمِيعُ الْجَالِسِينَ فِي الْمَجْمَعِ وَرَأَوْا وَجْهَهُ كَأَنَّهُ وَجْهُ مَلاَكٍ] .. [أعمال الرسل: 6] ..
وعليه فقد قام اليهود بتدبير المكيدة والتى أدت الى قتله ..
يقول لوقا: [فَلَمَّا سَمِعُوا هذَا حَنِقُوا بِقُلُوبِهِمْ وَصَرُّوا بِأَسْنَانِهِمْ عَلَيْهِ .. وَأَمَّا هُوَ فَشَخَصَ إِلَى السَّمَاءِ وَهُوَ مُمْتَلِئٌ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ .. فَرَأَى مَجْدَ اللهِ وَيَسُوعَ قَائِمًا عَنْ يَمِينِ اللهِ .. فَقَالَ هَا أَنَا أَنْظُرُ السَّمَاوَاتِ مَفْتُوحَةً وَابْنَ الإِنْسَانِ قَائِمًا عَنْ يَمِينِ اللهِ .. فَصَاحُوا بِصَوْتٍ عَظِيمٍ وَسَدُّوا آذَانَهُمْ وَهَجَمُوا عَلَيْهِ بِنَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَأَخْرَجُوهُ خَارِجَ الْمَدِينَةِ وَرَجَمُوهُ .. وَالشُّهُودُ خَلَعُوا ثِيَابَهُمْ عِنْدَ رِجْلَيْ شَابٍّ يُقَالُ لَهُ شَاوُلُ] .. [أعمال الرسل: 7] ..
وهنا يبرز شاول اليهودى لأول مرة ..
وقد كان من الذين شهدوا رجم إستيفانوس ..
ولم يكن لديه أى إعتراض على رجمه ..
وهنا يظهر بولس على أنه كان يهودياً صرفاً لا يؤمن سوى بالناموس اليهودى ..
بل كان معادياً لليهود المسيحيين مثل إستيفانوس ..
يقول لوقا: [وَكَانَ شَاوُلُ رَاضِيًا بِقَتْلِهِ .. وَحَدَثَ فِي ذلِكَ الْيَوْمِ اضْطِهَادٌ عَظِيمٌ عَلَى الْكَنِيسَةِ الَّتِي فِي أُورُشَلِيمَ فَتَشَتَّتَ الْجَمِيعُ فِي كُوَرِ الْيَهُودِيَّةِ وَالسَّامِرَةِ مَا عَدَا الرُّسُلَ .. وَحَمَلَ رِجَالٌ أَتْقِيَاءُ اسْتِفَانُوسَ وَعَمِلُوا عَلَيْهِ مَنَاحَةً عَظِيمَةً .. وَأَمَّا شَاوُلُ فَكَانَ يَسْطُو عَلَى الْكَنِيسَةِ وَهُوَ يَدْخُلُ الْبُيُوتَ وَيَجُرُّ رِجَالاً وَنِسَاءً وَيُسَلِّمُهُمْ إِلَى السِّجْنِ] .. [أعمال الرسل: 8] ..
بولس فى الطريق إلى دمشق
لم يزل شاول اليهودى معادياً ومضطهداً لليهود المسيحيين حتى الهاربين منهم إلى خارج أورشليم ..
حتى أنه اتجه نحو دمشق للحاق بمن فر هارباً منهم ليأتى بهم للإدانة أمام السنهدرين أو المجلس الأعلى لكهنة اليهود ..
وفى ذلك يقول الطبيب لوقا: [أَمَّا شَاوُلُ فَكَانَ لَمْ يَزَلْ يَنْفُثُ تَهَدُّدًا وَقَتْلاً عَلَى تَلاَمِيذِ السيد .. فَتَقَدَّمَ إِلَى رَئِيسِ الْكَهَنَةِ .. وَطَلَبَ مِنْهُ رَسَائِلَ إِلَى دِمَشْقَ إِلَى الْجَمَاعَاتِ حَتَّى إِذَا وَجَدَ أُنَاسًا مِنَ الطَّرِيقِ رِجَالاً أَوْ نِسَاءً يَسُوقُهُمْ مُوثَقِينَ إِلَى أُورُشَلِيمَ .. وَفِي ذَهَابِهِ حَدَثَ أَنَّهُ اقْتَرَبَ إِلَى دِمَشْقَ فَبَغْتَةً أَبْرَقَ حَوْلَهُ نُورٌ مِنَ السَّمَاءِ .. فَسَقَطَ عَلَى الأَرْضِ وَسَمِعَ صَوْتًا قَائِلاً لَهُ: شَاوُلُ شَاوُلُ! لِمَاذَا تَضْطَهِدُنِي] .. [أعمال الرسل: 9] ..
اليونانيين المسيحيين
يظهر من أعمال الرسل أن بولس بعد إهتداءه إلى الرب يسوع قد التقى بمجموعة من اليونانيين وأخذ يعلمهم عقيدة الصلب والفداء كما يظهر أيضاً أنه كان مضطهداً بسبب ذلك ..
فهرب الى طرسوس مسقط رأسه ..
ويعبر لوقا عن ذلك بقوله: [وَكَانَ يُخَاطِبُ وَيُبَاحِثُ الْيُونَانِيِّينَ فَحَاوَلُوا أَنْ يَقْتُلُوهُ .. فَلَمَّا عَلِمَ الإِخْوَةُ أَحْدَرُوهُ إِلَى قَيْصَرِيَّةَ وَأَرْسَلُوهُ إِلَى طَرْسُوسَ] ..[أعمال الرسل: 9] ..
من الواضح إذن أن بولس بدء فى تعليم اليونانيين الإيمان المسيحى وفقاً لعقيدة الصلب والفداء ..
ومن الواضح أيضاً أنه قام بعدة رحلات من طرسوس التى هرب اليها الى مجموعة من المدن وهى نفس المدن التى وجه الى بعضها الرسائل وهى: (كورنثوس – غلاطية – أفسس – فيلبى – كولوسى – تسالونيكى-أثينا) ..
فيقول فى رسالته لأهل غلاطية: [ثُمَّ بَعْدَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً صَعِدْتُ أَيْضًا إِلَى أُورُشَلِيمَ مَعَ بَرْنَابَا آخِذًا مَعِي تِيطُسَ أَيْضًا .. وَإِنَّمَا صَعِدْتُ بِمُوجَبِ إِعْلاَنٍ وَعَرَضْتُ عَلَيْهِمِ الإِنْجِيلَ الَّذِي أَكْرِزُ بِهِ بَيْنَ الأُمَمِ وَلكِنْ بِالانْفِرَادِ عَلَى الْمُعْتَبَرِينَ لِئَلاَّ أَكُونَ أَسْعَى أَوْ قَدْ سَعَيْتُ بَاطِلاً .. لكِنْ لَمْ يَضْطَرَّ وَلاَ تِيطُسُ الَّذِي كَانَ مَعِي وَهُوَ يُونَانِيٌّ أَنْ يَخْتَتِنَ .. وَلكِنْ بِسَبَبِ الإِخْوَةِ الْكَذَبَةِ الْمُدْخَلِينَ خُفْيَةً الَّذِينَ دَخَلُوا اخْتِلاَسًا لِيَتَجَسَّسُوا حُرِّيَّتَنَا الَّتِي لَنَا فِي الْمَسِيحِ كَيْ يَسْتَعْبِدُونَا .. اَلَّذِينَ لَمْ نُذْعِنْ لَهُمْ بِالْخُضُوعِ وَلاَ سَاعَةً لِيَبْقَى عِنْدَكُمْ حَقُّ الإِنْجِيلِ .. وَأَمَّا الْمُعْتَبَرُونَ أَنَّهُمْ شَيْءٌ مَهْمَا كَانُوا لاَ فَرْقَ عِنْدِي .. اَللهُ لاَ يَأْخُذُ بِوَجْهِ إِنْسَانٍ فَإِنَّ هؤُلاَءِ الْمُعْتَبَرِينَ لَمْ يُشِيرُوا عَلَيَّ بِشَيْءٍ] .. [غلاطية: 2] ..
العودة إلى أورشليم
بعد هذه الرحلة التبشيرية لبولس كان لابد أن يعود إلى أورشليم ليكتسب الشرعية اللازمة أمام الأمميين ..
ويصف القديس لوقا فى أعمال الرسل مشهد عودة بولس إلى أورشليم وقد حاول أن يبرز لقاء بولس بالرسل وكأنه لقاء حار جمع بين الأحباب بعد طول فراق فيقول: [وَلَمَّا وَصَلْنَا إِلَى أُورُشَلِيمَ قَبِلَنَا الإِخْوَةُ بِفَرَحٍ .. وَفِي الْغَدِ دَخَلَ بُولُسُ مَعَنَا إِلَى يَعْقُوبَ، وَحَضَرَ جَمِيعُ الْمَشَايخِ .. فَبَعْدَ مَا سَلَّمَ عَلَيْهِمْ طَفِقَ يُحَدِّثُهُمْ شَيْئًا فَشَيْئًا بِكُلِّ مَا فَعَلَهُ اللهُ بَيْنَ الأُمَمِ بِوَاسِطَةِ خِدْمَتِهِ .. فَلَمَّا سَمِعُوا كَانُوا يُمَجِّدُونَ الرَّبَّ .. وَقَالُوا لَهُ: «أَنْتَ تَرَى أَيُّهَا الأَخُ كَمْ يُوجَدُ رَبْوَةً مِنَ الْيَهُودِ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُمْ جَمِيعًا غَيُورُونَ لِلنَّامُوسِ .. وَقَدْ أُخْبِرُوا عَنْكَ أَنَّكَ تُعَلِّمُ جَمِيعَ الْيَهُودِ الَّذِينَ بَيْنَ الأُمَمِ الارْتِدَادَ عَنْ مُوسَى قَائِلاً أَنْ لاَ يَخْتِنُوا أَوْلاَدَهُمْ وَلاَ يَسْلُكُوا حَسَبَ الْعَوَائِدِ .. فَإِذًا مَاذَا يَكُونُ؟ لاَ بُدَّ عَلَى كُلِّ حَال أَنْ يَجْتَمِعَ الْجُمْهُورُ لأَنَّهُمْ سَيَسْمَعُونَ أَنَّكَ قَدْ جِئْتَ .. فَافْعَلْ هذَا الَّذِي نَقُولُ لَكَ: عِنْدَنَا أَرْبَعَةُ رِجَال عَلَيْهِمْ نَذْرٌ .. خُذْ هؤُلاَءِ وَتَطهَّرْ مَعَهُمْ وَأَنْفِقْ عَلَيْهِمْ لِيَحْلِقُوا رُؤُوسَهُمْ فَيَعْلَمَ الْجَمِيعُ أَنْ لَيْسَ شَيْءٌ مِمَّا أُخْبِرُوا عَنْكَ، بَلْ تَسْلُكُ أَنْتَ أَيْضًا حَافِظًا لِلنَّامُوسِ .. وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الأُمَمِ فَأَرْسَلْنَا نَحْنُ إِلَيْهِمْ وَحَكَمْنَا أَنْ لاَ يَحْفَظُوا شَيْئًا مِثْلَ ذلِكَ سِوَى أَنْ يُحَافِظُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ مِمَّا ذُبحَ لِلأَصْنَامِ وَمِنَ الدَّمِ وَالْمَخْنُوقِ وَالزِّنَا» .. حِينَئِذٍ أَخَذَ بُولُسُ الرِّجَالَ فِي الْغَدِ وَتَطَهَّرَ مَعَهُمْ وَدَخَلَ الْهَيْكَلَ مُخْبِرًا بِكَمَالِ أَيَّامِ التَّطْهِيرِ إِلَى أَنْ يُقَرَّبَ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمُ الْقُرْبَان] .. [أعمال الرسل: 21] ..
لقد كان بولس يعلم تعاليم تخالف تعاليم رسل المسيح عليه السلام ..
ولكن لما رأى نفسه فى موقف المواجهة مع يعقوب اليهودى المسيحى رئيس الكنيسة وقد أتهمه صراحة بمخالفة الناموس اليهودى بقوله: (أَنَّكَ تُعَلِّمُ جَمِيعَ الْيَهُودِ الَّذِينَ بَيْنَ الأُمَمِ الارْتِدَادَ عَنْ مُوسَى، قَائِلاً أَنْ لاَ يَخْتِنُوا أَوْلاَدَهُمْ وَلاَ يَسْلُكُوا حَسَبَ الْعَوَائِدِ) ..
فأضطر بولس أن ينصاع للناموس حتى يكتسب الشرعية اللازمة ليكون رسولاً للأمميين ..
ويقرر هذا الطبيب لوقا بقوله: (حِينَئِذٍ أَخَذَ بُولُسُ الرِّجَالَ فِي الْغَدِ وَتَطَهَّرَ مَعَهُمْ وَدَخَلَ الْهَيْكَلَ مُخْبِرًا بِكَمَالِ أَيَّامِ التَّطْهِيرِ إِلَى أَنْ يُقَرَّبَ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمُ الْقُرْبَانُ) ..
إن الذى حدث بعد ذلك يؤكد أن رحلة بولس كان لها صدى عند اليهود المسيحيين فى أورشليم ..
حتى أنه حينما علم شعب الكنيسة بدخول بولس إلى الهيكل هاجوا وماجوا محاولين أن ينقضوا عليه ليقتلوه ..
ولكن القديس لوقا حاول أن يبرز الحدث وكأنه صراع بين بولس واليهود بسبب نقض الناموس ..
يقول لوقا: [وَلَمَّا قَارَبَتِ الأَيَّامُ السَّبْعَةُ أَنْ تَتِمَّ رَآهُ الْيَهُودُ الَّذِينَ مِنْ أَسِيَّا فِي الْهَيْكَلِ فَأَهَاجُوا كُلَّ الْجَمْعِ وَأَلْقَوْا عَلَيْهِ الأَيَادِيَ .. صَارِخِينَ: يَا أَيُّهَا الرِّجَالُ الإِسْرَائِيلِيُّونَ أَعِينُوا! هذَا هُوَ الرَّجُلُ الَّذِي يُعَلِّمُ الْجَمِيعَ فِي كُلِّ مَكَانٍ ضِدًّا لِلشَّعْبِ وَالنَّامُوسِ وَهذَا الْمَوْضِعِ حَتَّى أَدْخَلَ يُونَانِيِّينَ أَيْضًا إِلَى الْهَيْكَلِ وَدَنَّسَ هذَا الْمَوْضِعَ الْمُقَدَّسَ .. لأَنَّهُمْ كَانُوا قَدْ رَأَوْا مَعَهُ فِي الْمَدِينَةِ تُرُوفِيمُسَ الأَفَسُسِيَّ .. فَكَانُوا يَظُنُّونَ أَنَّ بُولُسَ أَدْخَلَهُ إِلَى الْهَيْكَلِ .. فَهَاجَتِ الْمَدِينَةُ كُلُّهَا وَتَرَاكَضَ الشَّعْبُ وَأَمْسَكُوا بُولُسَ وَجَرُّوهُ خَارِجَ الْهَيْكَلِ .. وَلِلْوَقْتِ أُغْلِقَتِ الأَبْوَابُ .. وَبَيْنَمَا هُمْ يَطْلُبُونَ أَنْ يَقْتُلُوهُ نَمَا خَبَرٌ إِلَى أَمِيرِ الْكَتِيبَةِ أَنَّ أُورُشَلِيمَ كُلَّهَا قَدِ اضْطَرَبَتْ .. فَلِلْوَقْتِ أَخَذَ عَسْكَرًا وَقُوَّادَ مِئَاتٍ وَرَكَضَ إِلَيْهِمْ .. فَلَمَّا رأَوْا الأَمِيرَ وَالْعَسْكَرَ كَفُّوا عَنْ ضَرْبِ بُولُسَ] .. [أعمال الرسل: 21] ..
إن التبشير الذى قام به بولس خارج أرض كنعان كان قد أثار اليهود المسيحيين فى أورشليم ..
بعد ذلك يصف القديس لوقا كيف أن بولس أدعى أنه مواطناً رومانياً ليخلصه الرومان من يد اليهود المسيحيين الثائرين عليه ..
يقول لوقا: [فَلَمَّا مَدُّوهُ لِلسِّيَاطِ قَالَ بُولُسُ لِقَائِدِ الْمِئَةِ الْوَاقِفِ: «أَيَجُوزُ لَكُمْ أَنْ تَجْلِدُوا إِنْسَانًا رُومَانِيًّا غَيْرَ مَقْضِيٍّ عَلَيْهِ؟» .. فَإِذْ سَمِعَ قَائِدُ الْمِئَةِ ذَهَبَ إِلَى الأَمِيرِ وَأَخْبَرَهُ قَائِلاً: «انْظُرْ مَاذَا أَنْتَ مُزْمِعٌ أَنْ تَفْعَلَ! لأَنَّ هذَا الرَّجُلَ رُومَانِيٌّ» .. فَجَاءَ الأَمِيرُ وَقَالَ لَهُ: «قُلْ لِي: أَنْتَ رُومَانِيٌّ؟» فَقَالَ: «نَعَمْ» .. فَأَجَابَ الأَمِيرُ: «أَمَّا أَنَا فَبِمَبْلَغٍ كَبِيرٍ اقْتَنَيْتُ هذِهِ الرَّعَوِيَّةَ» .. فَقَالَ بُولُسُ: «أَمَّا أَنَا فَقَدْ وُلِدْتُ فِيهَا» .. وَلِلْوَقْتِ تَنَحَّى عَنْهُ الَّذِينَ كَانُوا مُزْمِعِينَ أَنْ يَفْحَصُوهُ .. وَاخْتَشَى الأَمِيرُ لَمَّا عَلِمَ أَنَّهُ رُومَانِيٌّ وَلأَنَّهُ قَدْ قَيَّدَهُ] .. [أعمال الرسل: 22] ..
وبالفعل نجح بولس فى الهروب إلى روما إلى غير رجعة ودون أى اتصال بالرسل ..
ومن الغريب العجيب أن لوقا يختم سفره بمكوث بولس فى روما إلى نهاية حياته ..
إذ يقول وهو يختم قصته بطريقة روائية: [وَأَقَامَ بُولُسُ سَنَتَيْنِ كَامِلَتَينِ فِي بَيْتٍ اسْتَأْجَرَهُ لِنَفْسِهِ وَكَانَ يَقْبَلُ جَمِيعَ الَّذِينَ يَدْخُلُونَ إِلَيْهِ كَارِزًا بِمَلَكُوتِ اللهِ وَمُعَلِّمًا بِأَمْرِ الرَّبِّ يَسُوعَ الْمَسِيحِ بِكُلِّ مُجَاهَرَةٍ بِلاَ مَانِعٍ] .. [أعمال الرسل: 28] ..